
بقلم: هدى إبراهيم الخميس*منذ الأجيال الأولى التي عاصرت قيام دولة الإمارات على يد الآباء المؤسسين، طيّب الله ثراهم، كان العطاء والعمل الإنساني سمةً متأصلةً في الشخصية الإماراتية، لمعايشتها السعي الدؤوب للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد، رحمه الله، لتحويل العمل الإنساني في الإمارات إلى ثقافة يومية وأسلوب حياة، مؤمناً بأن “الإنسان هو أساس أية عملية حضارية، وأن الاهتمام بالإنسان ضروري لأنه محور كلّ تقدّم حقيقي مستمر”، ومؤكداً على أنّ بناء الدول والمجتمعات بدون حس الإنسانية وروح العطاء، يظل بناء ماديا لا روح فيه، وغير قادر على الاستمرار لأنّ جوهر كل ذلك يكمن في الإنسان، القادر بفكره وبفنه وإمكانياته على صيانة كل هذا البناء والتقدم به والنمو معه. واستمر على هذا النهج رئيسنا الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيّب الله ثراه، والذي قاد مسيرة التمكين ورعى التحولات الجبارة والنمو المتسارع في الاقتصاد والعمران والثقافة.
رئيسنا الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيّب الله ثراه، والذي قاد مسيرة التمكين ورعى التحولات الجبارة والنمو المتسارع في الاقتصاد والعمران والثقافة.
وبفعل هذا الإرث النبيل والأثر الطيّب، برز المجتمع الإماراتي كأحد المجتمعات التي تتجذر في أبنائها ثقافة العطاء الإنساني بشكل عام في كافة المجالات، وخاصةً في المجال الثقافي، حيث شهدنا منذ السبعينات العديد من المبادرات التطوعية في التنمية الثقافية والتطوّع في خدمة المجتمع والإنسانية، بدافع تلك النزعة الخيّرة المتأصلة في الإنسان الإماراتي العربي المسلم، والتي أثمرت تأسيساً للجمعيات التي اختصت بتقديم يد العون لكل محتاج بغض النظر عن جنسيته ومعتقده، والمدارس الخاصة والعامة التي درس فيها الكثير من أبناء الإمارات لتسهم على مدى عقود في تعزيز الحراك الثقافي والتعليمي والتربوي على صعيد المنطقة ككل، والمؤسسات الثقافية التي تضاعفت مسؤولياتها انسجاماً مع النهضة الثقافية التي عاشتها الدولة بتوجيهات القيادة الرشيدة في مرحلة التمكين، إلى جانب العديد من المبادرات الشخصية التي أطلقتها شخصيات آمنت بأهمية التطوع في سبيل نشر العلم وتمكين الثقافة والإسراع إلى العطاء والتطوّع بالوقت والجهد والمال، ومن بين تلك المبادرات بناء المكتبات التي فُتحت أبوابها للجمهور، وقاعات عرض الفنون، ومجموعات مقتنيات الأعمال الفنية، والتي لعبت مجتمعةً، الدور الكبير في تطوير المشهد الثقافي الإماراتي وصولاً إلى يومنا هذا.
وعلى مدى العقود الخمسة منذ قيام الدولة، نضج مصطلح العطاء والعمل الإنساني في المجال الثقافي، ليقود جهود ومشروعات تحفيز المبدعين، بالتعاون بين المؤسسات والجهات المدنية غير الرسمية والحكومية المتخصصة، الأمر الذي أثمر عن وجود حالة تنموية فكرية ومعرفية رائدة وفريدة من نوعها شكلت نموذجاً يحتذى به على صعيد المنطقة والعالم.
وقد انعكست هذه الرؤية في فكر وعقل العاملين في القطاع الثقافي؛ ليظهر إلى جانب العمل الإنساني مصطلح يتوافق مع ثقافتنا العربية وتقاليدنا الإسلامية، والذي يتمثل في “الوقف الثقافي” كمبادرة إماراتية مبتكرة تسابق المشاريع العالمية الشبيهة وتتفوق عليها لجهة اعتبار العطاء في الثقافة رديفاً للعطاء في النظام الوقفي كأحد ركائز التكافل والتضامن بين أفراد المجتمعات المسلمة، لتستمر معه مسيرة استكمال البنيان الثقافي للمجتمع الإماراتي، ودعم تطوير الثقافة والفنون عبر العديد من الأفكار التي تسهم في تشجيع وتعزيز النمو الثقافي المستمر في دولة الإمارات، وهو ما يأتي على رأس أولوياتنا على مدار السنوات السابقة في منح القطاع الثقافي رؤية فريدة تكون العامل الرئيس في الارتقاء بمنجز الفنون ورفد المجتمع المحلي والعالمي بنخبة من الفنانين المحترفين في كافة المجالات الإبداعية ليظل الهدف الأسمى الذي نلتقي حوله في الإمارات والعالم، هو استدامة وتطور مشهدنا الثقافي واستمرارية عطائنا لأجل الإنسان والإنسانية.
عملنا في مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون ومهرجان أبوظبي، على إطلاق العديد من المبادرات والجوائز الثقافية بالتعاون مع شركائنا محلياً وإقليميا وعالمياً من كبريات المؤسسات الثقافية والمهرجانات الدولية لنسهم في تمكين الصناعات الثقافية ونحفز الحراك الإبداعي، ونؤكد من خلال ذلك أن التنمية الثقافية لا يمكن أن تسير في طريقها بالجهود الحكومية وحدها، فنحن بحاجة إلى تكاتف كافة الجهات ليكتمل معنا البنيان الثقافي بما يدعم الحفاظ على النهضة الثقافية والإنسانية، وخاصةً جمعيات النفع العام والأفراد في اتحاد فكري يؤمن بأهمية ومحورية العمل الثقافي غير الربحي. وفي صلب هذا المسعى، وعلى سبيل المثال لا الحصر، جاء تخريج الدفعة الأولى من برنامج رواد العمل الإنساني الشباب، بالتعاون مع المركز الاستراتيجي للأعمال الإنسانية في جامعة كامبريدج، البرنامج الذي يهدف لتأهيل وتمكين شباب من مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في مجال العمل الإنساني وحل المشكلات المجتمعية والبيئية، بمشاركة 20 منتسباً من الإمارات العربية المتحدة والسعودية وتونس، ولبنان، وفلسطين وبنغلاديش والأردن ومصر، إيمانا منا بدور الثقافة كركيزة أساسية من ركائز الوعي للنهوض بالعمل الإنساني بجميع مجالاته، ليكمل كل منهما الآخر في تعزيز القيم الإنسانية من إصلاح وخير وتطوع وعطاء، وانطلاقاً من هذا عملنا على وضع بصمة ورؤية واضحة تسهم في ترسيخ ثقافة العمل الإنساني وترسم مستقبله، محلياً وعالمياً.
كما انطوت معظم مبادرات وبرامج مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، على قيمة سامية تتمثل في تقديم نموذج ثقافي متكامل للنهوض بالعمل الإنساني واستدامته، تعزيزاً لقيم التضامن والتعاون بين الشعوب، عبر تمكين الشباب والاستثمار فيهم، وتأهيلهم ليكونوا رواداً ورعاة قدوة، مع التركيز على تزويدهم بمهارات وإمكانات حل المشكلات الإنسانية المجتمعية والبيئية وتحفيزهم على القيام بدورهم الطليعي في المجال الثقافي، إسهاماً في بناء أجيال شابة تقود مسيرة العمل الإنساني مستقبلاً، وتعبر عن رؤية ومبادئ الإمارات لترسيخ قيم البذل والعطاء والتفاني في سبيل الآخر.
إنَّ أهمية العمل التطوعي الإصلاحي في دعم الثقافة والفنون، ظهرت بوضوح في ظل الظروف الاستثنائية، التي عاشها العالم بسبب جائحة كوفيد 19، والتي أثرت بشكل كبير على الإنتاجات الفنية للمبدعين وطرحت العديد من التساؤلات المهمة لضمان استدامة القطاع الثقافي في مواجهة التحديات التي فرضتها الجائحة وآثارها على الفنون.
والمتتبع للعمل الثقافي يجده مليئا بالعديد من الفرص، ولا يقل في أهميته عن العمل الإنساني، لذا تحتم علينا التطوع وتسخير كل الطاقات والإمكانات لدعم الفن من خلال إطلاق المنح الدراسية والزمالات للجامعات والدراسات العليا في الخارج، وتقديم الإرشاد والدعم والرعاية للفنانين الشباب والمخرجين والموسيقيين الواعدين من الإمارات والعالم العربي، فمع وجود العديد من الفرص يظل هناك الكثير من التحديات التي قابلت ولا تزال تقابل العمل الثقافي الإنساني، والتي من بينها وجود نقص في التعريف بأهميته من المؤسسات التي تتصدر هذا النوع من العمل سواءً من نقص الإمكانات أو عدم وجود خطة واضحة أو إشراك المجتمع بجميع فئاته وشرائحه، وهذا بالضرورة يعود إلى نقص الكوادر المؤهلة والقادرة على الترويج للأعمال الإنسانية في قطاع الثقافة والفنون واستقطاب الرعايات، بالإضافة إلى القصور في الدور الإعلامي من حيث التشجيع والحث على التطوع الثقافي وإبراز أهميته لأفراد المجتمع.
وفي الختام، أرى أن من الأهمية بمكان الالتفات إلى وضع استراتيجيات وخطط تسهم في تعزيز حضور العمل الإنساني في المجال الثقافي ليستمر رفد مسيرة التنمية والاستدامة بالعطاء لخير المجتمع وخدمة الإنسانية، والإسهام في تمكين النهضة الثقافية العالمية من قبل كافة العاملين والمؤثرين في المشهد الثقافي إلى جانب وجود تشريعات تسهم في تعميق التنسيق بين جهات العمل الثقافي، مع أهمية وجود وعي مشترك بأهمية غرس العمل الإنساني الثقافي بكل جوانبه في نفوس الأجيال الجديدة، إضافة إلى بناء الشراكات والتعاون بين المؤسسات المعنية بالثقافة ومؤسسات الوقف والمسؤولية الاجتماعية. كما أنه من الضروري تبني وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة في المجال الثقافي قضية العمل الإنساني في المجال الثقافي، من خلال إعداد البرامج التخصصية، مع ضرورة تعريف العاملين في القطاع الثقافي بارتباط مؤسساتهم بالعمل الإنساني والدور الذي تلعبه في تحفيزه؛ مع العمل على استقطاب أصحاب الخبرات والكفاءات المتخصصة لقيادة الطريق نحو تحويل التطوع الفني والثقافي إلى أسلوب حياة بما يسهم في استدامة الحضارة الإنسانية.
– انتهى-
*مؤسس مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، المؤسس والمدير الفني لمهرجان أبوظبي